فندق بارون الحلبي
رحلة إلى الماضي
فندق بارون هو فندق فريد من نوعه في حلب حيث يقف شاهدا على التاريخ الأوروبي المتعلق بالشرق الأوسط وتاريخ سوريا معا. حيث أقام الملوك والرؤساء والكتّاب والجواسيس في أجواء تلك الأيام الخوالي.
قرابة عام 1870 قام أحد أجداد “أرمين مزلوميان” بالسفر من الأناضول متوجها إلى القدس بغرض القيام بفرائض الحج. مرَّ يومها بمدينة حلب التي اشتهرت بكونها مركزا عالميا للتجارة ولفت انتباهه أن الخانات التقليدية لم تكن مريحة على الإطلاق بالنسبة للأوروبيين الذين يقيمون هناك، عائلة مزلوميان الأرمنية التي كانت ومازالت المالكة للفندق هي التي بادرت بإنشاء قطاع الفنادق في مدينة حلب.
كتب على الفندق أن يتحمل العديد من محن العهود العصيبة فقد مر بحربين عالميتين وبعمليات تشريد وانقلابات عسكرية وهجرات ونزوحات وغيرها كثير.
فندق بارون أسس على ثلاث محاضر عقارية متجاورة حيث اشترى الأخوان أونيك (أوهانيس) وأرمين (أرميناك) مظلوميان عام 1909م قطعة أرض في محلة كوجوك صليبة (أي الصليبة الصغرى) التي كانت في بستان كَول أب، ولكن كان المحضر ذو مساحة صغيرة فقام الأخوان مظلوميان بالاستئجار لقطعتي أرض مجاورتين لأرضهما، الأولى عائدة لوقف التكية المولوية والثانية عائدة لوقف بوني أكري محمد باشا (أحد ولاة حلب السابقين). وفق نظام كان يسمى حينها نظام الاستحكار ويعني أن تبقى الأرض ملكا للوقف والبناء ملكا للمستأجر الذي يبني ارض الوقف على حسابه.
عام 1909 استكمل الطابق الأول من الفندق ثم الطابق الثاني عام 1911 وطابقا آخر عام 1940 كما تم ترميم الفندق بصورة متكاملة وتأثيثه على نحو حديث وافتتح عام 1911م وسمي فندق بارون.
التجوال في الطابق الثاني لفندق “بارون” له وقع المسلسل التاريخي، ففي الغرفة رقم 203 هي غرفة الكاتبة أغاثا كريستي. ليس من الضروري على المرء أن يتحلى بخيال خصب ليكون قادرا على تصور هذه السيدة الإنكليزية وهي تجلس على كرسي من طراز “تونيت” موضوع في مواجهة خزانة قديمة بمرآتها المصقولة والأعمال الخزفية الدقيقة المحفورة على الجدران والأدراج المطعمة بمقابض ذهبية، الأثاث أصلي ويعود إلى عشرينيات القرن الماضي”. وتمَّ ترميم قطع الأثاث واستخدام فراش جديد للأسرة. حتى بلاط الأرضية قديم.
كانت أجاثا كريستي تردد ببهجة كل صباح تحية “صباح الخير” وهي تعبر السلالم الواسعة في طريقها إلى فرندا الحديقة لتجلس هناك وتتناول الشاي في نفس الوقت الذي تكون فيه منهمكة في إعداد روايتها “جريمة قتل في قطار الشرق السريع”.
في الغرفة رقم 202 سكن لورنس العرب. ومن شرفة الغرفة رقم 215 أعلن الملك فيصل عام 1918 بأن سوريا قد نالت استقلالها.
وسكن في جناح الرئاسة على التوالي كل من ملك السويد غوستاف أدولف والرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس السوري السابق حافظ الأسد ومؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان والملياردير الأمريكي دافيد روكفيلر.
نزل في الفندق أيضاً زعيم الجمهورية الفرنسية الحرة الجنرال شارل ديغول يرافقه “الجنرال كاترو” وألقى “ديغول” خطبة من على شرفة الفندق، من النزلاء أيضاً ولي عهد ملك السويد، ومن النزلاء العرب سعد الله الجابري والمشير الركن “عبد السلام عارف” و”مختار ولد دادا” رئـيـــس جمهورية موريتانيا وإبراهيم هنانو وفارس الخوري ونوري السعيد و”عباس حلمي باشا”
ومن السياسيين والعسكريين مصطفى كمال أتاتورك وشاه إيران والجنرال الألماني “ليمان فون ساندرز”.
أقيمت حفلات الطعام الرسمية تكريما لكبار الضيوف في قاعة الطعام الكبيرة في الطابق الأرضي من فندق “بارون. أما الآن فإن نزلاء بارون يتناولون فيها طعام الفطور تحيط بهم جدران مطعّمة بالخشب وأبواب قوية صلدة ذات مصراعين وبلاط أخضر بيج بني وأغطية منحنية لمصابيح الإضاءة.
هذا الخليط المفصل من الأشياء يجعل من فندق بارون فندقا فريدا من نوعه، كمعدات الهاتف المتماسكة الضخمة ذات اللون الأخضر الغامق في موقع الاستقبال وفاتورة حساب لورنس ببروازها ولافتة التنك المخدوشة المنقوشة عليها عبارة “نادي العربات الألماني المشيد عام 1899.
لا يعطي فندق “بارون” الانطباع بوجود أداء مهني متكامل المتعارف عليه في الخدمات الفندقية، بل يطغى عليه جو أصيل جذاب بحكم طابعه العائلي واللمسات الشخصية. عندما نتحدث عن “محتويات” الفندق ومنها على سبيل المثال قطع الأثاث من طراز “أرت ديكو”
حاز فندق “بارون” على إعجاب كبير من قبل النزلاء الأوروبيين. فكان بوسعهم صيد البط من فوق “فرندات” غرفهم وممارسة الدبلوماسية من فوق كراس وثيرة مصنوعة من الجلد في الصالون الفاخر والتجادل في حانة البار حول الأحداث العالمية الراهنة حينذاك.
تناقل الناس الحديث حول جو الفندق الوثير المريح الأرستقراطي، وسرعان ما تخطت شهرته الآفاق. وبالتالي أصبح فندق “بارون” مقرا لمن لمع اسمه واشتهر في الشرق الأوسط سواء أكان سياسيا أم رجل أعمال أم عسكريا. وكان معظم نزلاء الفندق حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية من البريطانيين والألمان على وجه خاص. وكثيرا ما تقمص جواسيس بريطانيون سمة علماء الآثار للتجسس على جنرالات ألمان عمدوا إلى إقامة حفلات فاخرة لحلفائهم العثمانيين.
الفندق تكتم جدرانه وكتاب ضيوفه الكثير والكثير من القصص والأسرار، حول الراقصات الشرقيات وأولياء العهد الرازحين تحت وطأة الأمراض، والمكائد التي حيكت، والانقلابات التي خطط لها، وغيرها… فندق بارون يوفر مادة غزيرة لتأليف قصة فيلم سينمائي شيق أو يتيح الفرصة على أقل تقدير لزيارة فندق فريد من نوعه.
You must be logged in to post a comment.