بقلم حسام تاج الدين
عزيزي، هل أنت تافه؟
أرمي بكتب العلوم والثقافة في حاوية الزبالة لأنها لم تعد مصدر العلم لابلّ وسّع عينيك وارخي شفتيك ولربما تحتاج لأن تطيل أذناك في مرحلة ما مستقبلا لكي تواكب ثقافة التفاهة والسطحية المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي وجيل التوافه الصاعد والمكتسح لعالمنا، حتى أمسينا نشعر بأننا بتنا نحن من نفكر بشكل سليم قلّة قليلة في طريقها للانقراض، فهل باتت التفاهة نظاماً اجتماعياً قائماً بحدً ذاته يَحكم ويتَحكّم؟!
فُرّغت كلمة “حرية” من مضمونها بإطلاقها لوصف هذا العبث والإجرام المُتعمّد بحق البشرية والأجيال القادمة، فمن يتراقص بخلاعة أمام العدسات أو من يهزّ بكرشه الضخم أو من تعرض أردافها أو عيونها أو حتى الابتذال والتدني في الحديث لكي يصبحوا (ترند)، هؤلاء هم من يتحكمون في أسواق الإعلانات والتوجهات المستقبلية للشركات لأنهم كما يطلقون عليهم (المؤثرين)، لكن لا نعلم هم مؤثرون في ماذا أو لماذا!، فليس كل مؤثر إيجابي، وقليلين همّ الإيجابيون.
نتساءل بعد انتشار هذه الظاهرة خلال بضع سنوات فقط، هل التفاهة هي هروب للطبيعة الإنسانية نحو التثاقل عما يبعدهم عن الهموم الحقيقية للحياة أم أن هذه سياسات حكومية ممنهجة لإخضاع الأجيال الجديدة لتوجهاتهم الاقتصادية والسياسية على اختلاف أنواعها وتوجهاتها على حدٍّ سواء في العالم الحرّ الليبرالي كما يدعون أو الأنظمة القمعية المستبدة.
لا أهمية للقيمة العلمية والثقافية والأخلاقية ما دامت غير مربحة، هذا ما عزز من تصدر التوافه لوسائل التواصل وبروزهم كمثل يحتذى من الأجيال الناشئة عبر تدني المعايير الأخلاقية لمجتمعاتنا قاطبة على اختلاف مستوياتها.
هل نحن أمام تمهيد لجعل التافهين محطَّ أنظار الأجيال القادمة وقدوتهم؟
هؤلاء الشراذم من التوافه كان قُصارى أفقهم أحاديث المقاهي والحانات وجلسات غير العِلم للتافهين أمثالهم، لكن مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أصبح لهم صوت يُسمع مِثلهم مثل أي عَالِم أو مثقف، وما عزّزَ ظُهورهم التَحوير المجتمعي القائم على تعظيم الشخص الذي يستجلب المال بغض النظر عن رسالته وقيمه التي يطرحها هذا إن كان يمتلكها أصلاً، وعلى رأس وأخطر هؤلاء التوافه هم علماء الدين الذين لديهم ملكات لغوية وحبكة قصصية تستثير مشاعر المتلقين ولكنهم كما سَلفَ من سَلفِهم من علماء السلاطين هم يحرفون الحق عن موضعه ويبثون سمومهم تحت كلمة الحق والله والدين منهم بريئين.
ولعلَّ الأخطر هو انتشار مما يطلق عليهم إعلاميين يتناثرون على الشاشات ويطلقون أبواقهم ونهيقهم وجُلّ ملهم هو الترويج لإشاعات وأكاذيب من يوظفونهم لنشرها دونما حسيب ولا رقيب لكي تصبح هي الشغل الشاغل للعامة والجزرة التي يلهثون خلفها لكيلا يقلبوا أفكارهم ويخلصون أن وضعه المذري لا يتأتى له التغيير دون إزاحة هؤلاء الشذاذ لكي ينعموا بالحياة المستقرة الكريمة التي يستحقونها.
ومع تنامي هؤلاء انتشرت لغة جديدة هجينة أصبحت تشكل خطراً على اللغة العربية، حيث باتت الأجيال الجديدة لا تستطيع أن تتخاطب دون إدخال الرطانة باللغة الإنكليزية أو المصطلحات الغريبة في معظم جملهم، وإن طُلبَ منهم أن يقرئوا أو يشرحوا معاني بعض الكتب أو الأبيات الشعرية البسيطة لارتخت ألسنتهم من أفواههم لأنهم ليسوا بها بعالمين.
مع تنامي هذه الشريحة المجتمعية ستفقد الأجيال الناشئة تدريجياً اهتمامهم بالشأن العام والعَقد الأخلاقي البشري والوازع الديني القائمين على التكافل فيما بينهم لكي يصبح مناط تركيزهم أنفسهم والفردية الأنانية، وهذا سيخلق أشباه مثقفين مستقطبين لحِيادية سلبية لأنهم يفتقدون التراكبية المنطقية النقدية في سلوكياتهم لأنه عُلّمِوا أن يعترضوا لأنه هذا جزء من حقوقهم كما أفهمتهم حكوماتهم ولكنهم لا يُعارضون لأن المُعارضة تُسقط حكوماتهم وتعرّيها.
إلى أين تُوْدي بنا هذه الحرية العجفاء المُتفلِّتة؟
باتت مجتمعاتنا يتلاعب بها أهواء قِلة من الروابض الذين تعالت كلمتهم بين العامة وسيطروا على نقاط حساسة في البنية الاجتماعية بطرق ملتوية عبر قواعد مستحدثة سخيفة وتافهة تَسوْقُها العواطف والشهوات والوهم، كأنها خُطّة ممنهجة لمسح أي بقايا أخلاق ودين وقيم إنسانية متعارف عليها منذ الأزل.
الحلّ الأمثل بترك وتجهل هؤلاء وعاملوهم بحجمهم الحقيقي فبتجاهلهم ستطفأ النار التي يتغذون منها ألا وهي الشعبية والمتابعة والتي بدونها سيعودون لجحورهم، فقد حان الوقت لكي ننهض بقيمنا ونحمي أنفسنا وأبناءنا.
ما هي إلا بِضعةُ تساؤلات لليبراليين المُدعين للحرّية قبل أن يدفعوا بالحرّيات والهويات إلى نقطة اللاعودة، عندما نُضحي بالموضوعية والواقع لنحصل عل تفاهة ثقافية، هاهنا تكون قدّ بدأت مراحل الانحطاط بالمجتمعات بدعم من الدول والقادة تحت مسمى حرية شخصية، فلتقف أمام نفسك لتسألها، هل أنا تافه؟!